"شكراً
على هذا العيد"
تعرض قناة فضائية دعاية رقيقة لاستقبال عيد الفطر المبارك، برعاية
إحدى كبريات شركات الهاتف المحمول، وفي الدعاية، يظهر فتيات وصبيان فقراء، حفاة
وبثيابٍ متسخة ورثة، وجوههم كالحة وعيونهم تعيسة، يسيرون ببؤس في الطرقات، حتى
يلتقيهم صاحب مروحة ورقية ملونة، ينفخ في وجه الصبي الأول نسائم من مروحته فتصير
ثيابه بلونها وتشرق وجنتاه، تنبهر الطفلة السمراء واسعة العينين لروعة ما رأت،
فينفخ في وجهها بائع الحلوى (حلوى الصوف) الشهية، من نسائم حلواه، فتتحول بدلة
النوم الرمادية المهترئة التي تلبسها إلى
ثوبٍ ورديٍ، وزهرة تُجمل شعرها. يغمر الجميع الفرح، فيركضون كلهم ليلتقون
بصاحب الدمى والكرات والألعاب والبالونات وعازفي الألحان. يجتمع حولهم الأهالي
وتتناثر الزينة في كل مكان، تلف السعادة الوجوه. تتقافز تلك الطفلة السمراء واسعة
العينين ذو الجسد النحيل مبتهجة الأسارير والسماء تمطر هدايا العيد برعاية (شركة
الإتصالات) وأنشودة تقول:
شكراً.
أحييت الحب فشكراً.
أفرحت القلب فشكراً.
وقهرت القسوة حين منحت العيد، ثياب العيد.
ألغيت البعد فشكراً.
و وصلت الود فشكراً.
وأعدت السعد فشكراً.
أرجعت العيدَ للعيد.
شكراً على أجمل عيد.
شكراً على أسعد عيد.
شكراً على أكرم عيد.
من جودك قد فاض العيد.
وفي ختام النشيد دعاء جميل: (اللهم لا تحرم طفلا، نعمة العيد).
وفي فاصل إعلاني آخر لذات القناة، طفلة من غزة، مصابة بقذائف العدو الإسرائيلي،
مرمية على سرير المستشفى، دامية العينين والقلب، تستبقل عيدها بألم وحسرة ويُتم.
غير أنه ليس ببعيد، ما بين المشهد الأول والثاني، قصة طفل وطفله، كانا
يركضان في الأزقة، يناديان حي على اللعب، ليسا متسخين، لكنهما أيضا ليسا مرفهين
وباذخين. أطفال بلادي ينتعلون أحذية بخمسة دنانير، وقمصانهم بديناران. في مدينتي
الكبيرة (طرابلس)، لا تتوفر لطفلي مساحات خضراء ليلعب أو منتزهات، لا يوجد حديقة
حيوان أو طيور، لا خطوط بيضاء يقطع الطريق عليها ولا إشارة مرورية خضراء ليعبر، لا
نجرم العنف ضد الأطفال، بل نتبناه كجزء من منظومتنا التربوية القمعية، لا نعيب على
أحد إهانتهم ومنادتهم بأبشع العبارات إبتداء من الأم وحتى المدرسة وحتى كل مكان.
غير أننا نحبهم كثيراً ولانزال ونصنع لهم (فطيرة وسفنز) وحلويات صباح
العيد، نحن لسنا أغنياء لذلك نشتري لهم الكثير من الألعاب الرخيصة من (طاولة ولد
الجيران)، الذي وضعها في أول الشارع ليسترزق منها، ونوفر لهم ما قدرنا من ثياب جميلة،
ونعدهم بليبيا حرة وعامرة .
كانت لتمتلء الطرقات بالباعة ويستولي التجار على مساحات الأرصفة أمام
محلاتهم لعرض بضائعهم، وتخرج العائلات للتبضع والتجول في آواخر رمضان وحتى ساعات
الصبح الأولى، ويتحول ليل الصيف القصير الى بهجة وسرور.
غير أن ما حدث كان بشعاً، ومريراً، لقد قطع تجار الموت ترانيم الفرح
في ليل صيامنا بصوت بارودهم، أفزعوا أطفالي بسلاحهم الثقيل، ويرعبون جدتي العجوز
التي تصرخ من الألم وهي تصابر على صيام رمضانها الذي قد لا يكون الأخير، لكن ما
بقي من عمرها ليس أكثر مما مضى.
القصف والتفجير قطع عن بلدتنا الكهرباء، التي قطعت الإتصالات ثم
انقطعت المياه، صوت البارود دمر مطار بلادي وأكلت النار طائراته، يملء الخوف
والدهشة وجه طفلي وهو يشاهد النيران تلتهم الطائرة (ياماما كيف النار تقدر تاكل طيارة؟!).
ويفسر لي ما يحدث في وطنه بأن: "يا ماما، ليبيا فيها شريران، شرير في محطة
الكهرباء وشرير في محطة المياه".
الكراهية تزاحم الأفق في شهر الله الفضيل، والبيوت تهدم وتسرق وأرزاق
الناس تضيع وأرواحهم تزهق و(أمير الحرب)، أخرج عائلته من مدينتي منذ بداية رمضان،
ونحن لم نفهم مغزى ذلك، حتى دكَ المدينة فوق رؤسنا.
في بلادي نفخوا في النار فأضرموها واحترق وقود الشعب ونحن ما في
أيدينا الا دعاء نرفعه لله: (حسبنا الله ونعم الوكيل)،
السماء تمطر موتاً، برعاية (أمير الحرب) وأنشودة صغيرة في عيدنا تقول:
شكراً.
شكرا على حزن العيد
شكرا على قتل العيد.
بوجودك قد مات العيد.
(حرمت طفلي من هذا العيد).
هناك 3 تعليقات:
شكراً على قتل العيد
أبدعت
ابدعت وابكيت
ابدعت وابكيت
إرسال تعليق