الجمعة، 13 يونيو 2008

ليلة 6/5/2008 الـــ(العصيدة/ صحتين وعافية يا هيلينا)

كان لي موعد مع هيلينا اليوم التالي لرحلتنا الساحرة تلك، خرجنا معاً والأصح هي من اصطحبتني، المساء جميل لكن الجمال الذي يملأ الروح ويكفيها، لا يملأ المعدة التي لا تكف تطالب وتصرخ: (شرهان جائع......شرهان يريد طعاماً.......شرهاااااااان جااااائع)
والحقيقة أنه كان هنالك (شرهانان جائعان، معدتي ومعدة هيلينا) وازداداً يصرخان بعد أن انتشرت روائح السمك والبطاطا (fish and chips) الشهية، يلتهمانها فتاتان انجليزيتان جائعتان، يسيران أمامنا ويزيدان جوعنا. دعوت هيلينا لتناول العشاء معنا، ووافقت بعد تردد وخجل: إنها العاشرة مساءاً قد لا يرغب رامز في ضيوف في مثل هذا الوقت!.
- لا عليك، رامز سيرحب بأي ضيف في أي وقت، وأنت لست ضيف أنت جزء من عائلتنا، ربما نعد سندوتشات التونة والجبن، بعض عصير البرتقال سيكون منعش بعد هذا التعب... –فكرة- بمناسبة هذا البرد القابع ولا يريد أن يغادر، في بلادنا نعد طبقاً يسمى (عصيدة) من الماء والدقيق ورب التمر، وهو جداً فعال لمقاومة البرد ويعطي طاقة عالية ودفء والاهم يملأ المعدة، هل تتحمسين لتجربته؟!، سيكون مختلف.
هيلينا قبلت أن تجرب العصيدة وعلى هذا اتفقنا، ومن هذا صدم زوجي عند دخولي البيت وإخباره أنني سأطبخ عصيدة لهيلينا؟؟؟؟؟!!!!!!. - لالا حرام عليك تصدمي البنت، عصيدة مرة واحدة*!!! زوجي في حال ذهول لا يصدق ما يجري، انجليزية وعصيدة!، أحيانا يضحك أحيانا يبتعله الصمت وهو يراقبها تساعدني في إعداد هذه العصيدة.
بالنسبة لي، قليل من الغرابة لا بأس به في حياتنا، لن ألوم هيلينا إن لم تعجبها عصيدتنا، فأنا لم أكن أفضلها أبداً، وكانت أمي تخصني بإفطارٍ لي عندما يكون إفطار العائلة (عصيدة)، وهنا بحثت عن رب التمر وتعلمت إعدادها، إنه الحنين وبرد هذه البلاد الغريبة الذي يجعلنا نشتاق لتفاصيل كنا لا نهتم لها في أرض الوطن، تفاصيل صغيرة وقد نراها بلا أهمية تترك ندبة حسرة عميقة في حنايا القلب، أذكر أشياء لم أكن ألتفت لها: - الفلفل الانجليزي الخشن السميك يريني كم كان جميلا فلفلنا الأخضر اللذيذ، الخيار، الباذنجان، الحبق، المعدنوس النعناع، التوابل، مذاق الطعام ورائحته الشهية.
أمور تتبدد بين ثنايا خيال الذاكرة تصير ثمينة كلما أخذك جواز السفر بعيداً، (قعد الكسكسي وقصعة البازين وفرادي خبزتنا الرخيصة والطيبة عصيدة الميلود، وشواء العيد ولمتنا وحكاياتنا حتى نقاشاتنا وعراكنا ومشاكلنا.....). أشياء تخطر ببالي لم أقف عندها من قبل أبداً: البقرة التي تسميها أمي (سعيدة بق بق عيني) في مزرعة أبي، دجاجتنا وأرانب أخي الصغير وقطيع الغنم يتراقص فيه حملان توأمان، شجرة التوت أمام البيت، شجرة الليمون القمرية المسماة باسمي....... لكل منا شجرة باسمه.
سأحاول مقاومة سيل الذكرى لأكمل سرد ليلة العصيدة مع هيلينا. بدون إطالة، جهزت العصيدة ولبعض الاحتياط، حتى لا نترك (شرهان معدة هيلينا جائع) حضّرت سندوتشات تونة وجبن وعصير.
ما الذي تتوقعنه قد حدث؟؟؟!!!، لا شيء غير انه قد وافق هوى العصيدة هوى هيلينا وهوى هيلينا هوى العصيدة، وانتقل ذهول زوجي لي، في حين أن زوجي غرق في نوبة دهشة جحظت لها عينيه، عندما كان يرى الفتاة الانجليزية تأكل العصيدة بيديها، تقطع اللقمة وتغمسها في الرب وترردد: يمي يمي،......يمي delicious
ووفاء لعادتنا الليبية الأصيلة لا انفك اطلب منها أن تأكل المزيد.. المزيد. فأنقذها زوجي وأخبرها: الحسي أصابع يدك فتكف عن إلحاحها. وما سمعت تلك الكلمات حتى راحت تلحس أصابع يدها. صحتين يا هيلينا وعافية
وهيلينا تعلمت أن ترد: (سيلميك) أي سلمك.
بعد أيام وصلني هذا الإيميل منها: Please can you also send me a recipe for Acida ( I am not sure how to spell it!). I told my parents about it and they were interested so I may try and make it for them one day! Where could I buy the date syrup in Newcastle do you think?
ستصنع لوالديها العصيدة

الأحد، 8 يونيو 2008

رحلة إلى جزيرة الاحلام

أرض السحر والجمال، أطء الآن الجزيرة المقدسة بقدمي، أرسل عيني في الأفق، تترنح بين نسيم البحر العليل وابتهاج أسطول البجع السابح فيه وخضرة التلال المزقزقة مهللة للنوار
أين أنا؟
إنها الجزيرة المقدسة Lindesfarne:
جزيرة مدّية مِنْ الساحلِ الشمالي الشرقيِ لإنجلترا، يقطعها المد مرتين في اليوم، فيمحو أثر العابرين ويجبر المتشمسين على العودة إلى الوراء، الخلجان الصخرية والبرازخ المنمنمة، البيوت الانجليزية الطراز، القديمة، القلاع، الحصون، الكنائس ودير العبادة، كل شئ كما هو، كأنه بني البارحة وليس قبل عشرة قرون، الأساطير وحكايات الأولين عن حروب أدمت الساحل، نبوءة لمجاعة عظيمة اجتاحت المدينة بعد ظهور تنين ينفث نارًا في السماء لحقته زوابع وأعاصير تلاه هجوم الاسكتلنديون عليها، ومقاومة الرهبان للغزاة الوثنيين، أخبار تزيد الجمال وله الغموض وارتباك المغامرة لدخول بوابة الزمن الغابر.
أنا في كل هذا، أحاول اغتراف كل ما يمكنني من عبق التاريخ وتعبئته في سرداب الروح، زوجي راح يحلق في الأخضر اللا متناهي، يحاول التقاط كل ما يمكنه من سحر هذه الطبيعة الغناء بكاميرته الرقمية، والصحبة ودودة وجميلة، هيلينا من ليوتن، ستيورت من ايرلندا، ،راندي من غانا، بول وسارة من نيوكاسل، وإنا وزوجي من ليبيا،
عقب هاتف لهيلينا تسألنا إن كنا سننضم للرحلة أم لا، وقد حُزم الأمر عندما تنازل زوجي عن يوم في عطلة الأسبوع لدراسة مقرره، فغادرنا عند الثامنة صباحاً تصطحبنا هيلينا في سيارتها الخضراء الصغيرة على طريق امتد لساعتين كاملتين، الأمر كان مفاجئاً لنا، جمال المكان لا يصدق، سحره لا متناهي، وعلى عادة الانجليز فنجان الشاي الصباحي المقدس، جمعوا المال لابتياعه، وهيلينا دفعت في إصرار لنا ثمن فنجاني الشاي وهي تردد: انتم ضيوفي.
بداية صباحية موفقة تدحر نظرية بخل الانجليز المعششة في رأسي ورؤؤس الجميع هنا، أكملنا جولتنا في جزء مهم من الجزيرة يحوي دور العبادة والكنائس والمباني الأثرية الصغيرة، وهو في ذات الوقت محمية طبيعية للطيور والحيوانات يسكنه ويعمل فيه صيادون، بالطريقة البدائية بالشباك مبتعدين عن عقد التكنولوجيا، في هذه الجزيرة المحجوزة من العالم حكراً على الجمال وحده، والنائية والصامتة عن كل ضجيج وصداع.
أخذتنا هيلينا وبول بسيارتهما لنزور جملا آخر انها: Berwick upon tweed مدينة أكثر ضجة وازدحام تتخللها المحلات التجارية والحدائق لكنه في ذات الوقت تقليدية بسيطة تشرح كل عقد الانجليز.
الناس يعيشون داخل أسوار القلاع القديمة الصامدة في وجه الزمن، انهم يعملون في الزراعة والجمال، نعم الجمال، وما أجملُ من بيت صخري قديم منمق على ساحل البحر يغرق في تلال الزهور، أكاد لا أصدق أني هنا، افتح عيني، النسيم العليل يهفو بي في ملكوت الله، وإبداع خلقه، سبحان الله، سبحان الله فيما أبدع.
الانجليز شعب خبر الحروب والغارات، منذ ألاف السنين، وتطور لها وتجهز، ولو أني أتسائل من يعيش في أحضان هكذا جمال ليس عليه إلا أن يكون ملاكاً رحيماً، لكن الحروب تصنع القسوة فالانجليزي الذي غزا الكرة الأرضية حتى صار لا تغرب عن عينيه الشمس، هو حفيد هذه الحضارة العتيدة الممزوجة بالدماء على صفحة الأخضر الممتدة.
رحب الرفاق بنا، شرحوا لنا عن وطنهم، واعتزاز الانجليزي بدمائه (الزرقاء)، سألونا عن ليبيا ولم نكن ننتظر السؤال حتى نسهب الغزل في ذلك الوطن الرقراق، راندي أبدى حماسه ولهفته وعشقه لسياسة القذافي، الرجل لم يخفي ذلك عن مستضيفيه، يقول: القذافي وحده من سيخرج أفريقيا من الفقر والجوع، وان الاتحاد الأفريقي المعرقل، هو حلم الآن، لكننا سنراه قريبا لان القذافي يدفع بالحلم للولادة من رحم الخيال، وموقف القذافي الرادع للغرب ومواجهته لهم بمعادلته لموازين القوة تجعله معبود الملايين الأفريقية، أثلج صدري كلام راندي، أسعدني ذلك وأفقت على رائحة الغذاء
حان وقت الطعام، وهذه مفاجأه أخرى، طبعا نحن استعدينا، وطبخت الكثير من الأصناف، من جهة لان الطعام كان مشترك وموزع على الجميع ومن جهة أخرى حتى لا نقع في فخ الإحراج فنحن لنا دين يحكم طعامنا ولا يمكننا مجاراتهم فيما يأكلون،
كل منا وضع الأصناف التي أحضرها على حافة الحاجز الصخري مقابلين للنهر ولاعبون يتزلجون على سطحه، عن نفسي أعددت أرزاً و(محشي ورق العنب) ومجموعة من السلطات المشكلة، راندي كان قد أعد كباب وفاصوليا وعدد من السلطات الإفريقية، الغانية، اللذيذة، الغريبة، هيلينا أعدت مجموعة متنوعة من السندوتشات و فطيرة انجليزية تقليدية شهية، أما بول وسارة وستيورت فقد تكفلا بالصحون والملاعق والأكواب البلاستيكية والمشروب الغازي والبطاطا (التشبس).
كل شخص يقدم لبقية الرفاق ما أعد، وهذه أيضا خالفت المبدأ الانجليزي (help your self) فكان كرماً دولياً منقطع النظير، أدارت هيلينا احتفالية الغذاء الدولية هذه وطبلت أن يشرح كل منا ما أعدد ومما أعده، وبدأت بأطباقها، ثم أطباقي ثم أطباق راندي في جو من سخرية ستيورت من صديقته الـ(جوردية) لعدم إتقانها لأي من فنون الطبخ وتركها إياه يتضور جوعاً،
ما أدهشني وتركني في حال ذهول، أنهم ولأنهم يعلمون أننا مسلمون لا نأكل لحم الخنزير أو أي من مشتقاته، وعداه يجب أن يكون اللحم حلال مذبوح على الطريقة الإسلامية، لا نشرب الكحول، صنعت هيلينا ساندوتشات السلمون بدل الدجاج ولم تضف الكحول لفطيرتها، وراندي ابتاع لحماً حلال من قصاب مسلم، والاخرين أحضروا البطاطا (التشيبس) وقد تأكدوا من خلوها من أي من مشتقات أو نكهات لحم الخنزير، كان كرماً رائعاً، امتنه وزوجي لهم.
في طريق العودة المسائي ابتاعت هيلينا ثلاث نبتات طماطم، تريد زرعهم في فناء منزلها،
هذه الصور ستحكي ما عجزت عنه وقصر لساني وقلمي في وصفه.
تمنياتي برحلة ساحرة.