الأربعاء، 4 يوليو 2012

ثلاثتهن


كما عادة الصباحات (الجوردية)* في هذه المدينة الغائمة الغريبة، بلكنة سكانها المحلية المخنوقة لالتهام مخارج الحروف في حناجرهم الى سحنتهم الشقراء (المتفطسة) وملامحها الخشنة الى الوشم الذي يشبه ختم العلامة المسجلة على اجسادهم، المختوم (جوردي) ومن ليس مختوم ليس (جورديا) أو هكذا تقريبا هذه نيوكاسل.
الصباح (الجوردي) هو صباح مشمس ربيعي ماطر وملئ بالغيوم مع هبوب الريح  وهكذا فقط يكون رائعا.وفي بيت صديقتنا المغربية الانيق اجتمعنا ثلاثتنا لشرب فنجان القهوة العربي الصباحي بنكهة (الهيل) ودغدغة الحنين. لقاء عربي حميم بدأ بسيرة (الحريرة) الشوربة المغربية الشهيرة وأسماء الخضروات فهي (المالطيشة) بالمغربي أي (الطماط) بالللهجة العراقية او باللبناني (بندورة) والليبي طماطم اخضر لأننا نستعمل نوعا آخر من الطماطم هو طماطم الحكة او الحك وابحثوا عنها في القاموس فهي عربية فصيحة.
مع فنجان القهوة الفائح الساخن تتلمس حورية المتزوجة من رجل فاضل عراقي مقيم في بريطانيا ذكريات زيارتها الاخيرة لوطنها الام المغرب، تقول: اصر علي ابن اخي الشاب اليافع انه يحجز بنيتي الصغيرة لخطبتها حين تكبر وبكل الغيرة يوصيني (لا تدع عيون الانجليز تقع عليها)، فرردته متحججة أنه لماذا  اقبل بك وقد طلبها ابن عمها وهو مقيم في بريطانيا فتبقى ابنتي بجواري، على عكسك  فستصحبها لتعيش معك في المغرب وتبعدها عني، زممت شفتي بصرامة وانا اقول له(لالالا ما نعطيش بنتي لغريب)، فقفزت امي نحوي وقد كانت تستمع لحديثنا وما رأيتها وهي امراة مسنة معتزة بقفطانها المغربي صارخة في وجهي غاضبة (حورية ما تعطيش بنتك لغريب  وهو ولد خالها، إش حال انا عطيتك لغريب يا حورية، غربك وتغربتي، ماحستيش بيا وقتها اياك)
اغرورقت عيني حورية بالدموع وقد فهمت لأول مرة بعد اكثر من عشر سنوات زواج وغربة  ما تعنيه امها، (انام واستيقظ وصورتها تقفز في وجهي تلومني وتستنكر بعبارة ترن في أذني:أش حال اعطيتك لغريب ياحورية)، كنت ومنذ شبابي المبكر اتمنى ان ارتبط بشاب عربي من غير بلادي المغرب والتقيت بزوجي وكان فارا من العراق مطاردا من حزب البعث ومحكوما بالإعدام أيام صدام حسين، اقترن بي في المغرب لكننا بعدها طفنا بلاد كثيرة حتى استقر بنا الحال في بريطانيا.
 والحال ذاته استقر ايضا بنوال القادمة من (الضيعة بلبنان)، ارملة شيخ الشباب رحمه الله..(انا الاخرى منذ شبابي المبكر اقتنعت  تماما ان ارتبط برجل يكبرني بالكثير من الأعوام المرأة تنضج مبكرا وتسكن الى الحياة الاسرية والبيت والأطفال اما الشاب (يظل حاط جيلي على شعره ولاحقلي هيفاء وهبي)، و زوجي رحمه الله رجلا محترما وقورا، كان ققد تزوج من سيدة اسكتلندية مسلمة فاضلة (يمكن انا يفوتني فرض الصلاة وهي ما يفوتها) وأنجب منها خمسة من الابناء ثم انفصلا، اعترض اهلي كثيرا على الزواج منه بحجة فارق السن لكنني رأيت فيه بعين المحب ما لم يقدروا علي رؤيته، مدافعة عن قناعتي أن الاعمار بيد الله (ويا خيتو يلي بتتزوج شب بتضمن عمره؟!)، انجبت منه طفلتي الوحيدة وحين كنت حامل بها اصيب بالجلطة، ظل يستسمحني حتى اخر أيامه شاعراً بذنب لم يقترفه حاملاً هَم أرملة شابة وطفلة صغيرة يتركهما ورائه وأنا آملة أن(بعيد الشر عنك يا حجي(أي ياحاج) يومي قبل يومك بكرة بتصح وترجع معافي)وما هي الا اشهر حتى انتقل الى رحمة الله (وراح الرِجال يا خيتو...بس اولاده الشباب ما تركوني انا وبنتي وما خلوا ينقصنا شي، عين الله عليهم مثل ابوهم) واستقر بنا الحال في بريطانيا.
وبريطانيا هذه ما كانت بالحسبان، الحياة مليئة بالمفاجآت، كنت أقصى ما أتمناه في رجل ارتبط به ان يكون قارئ، يعرف الطريق الى الكتب ويخبره و(مفلس) هكذا صفتين مرتبطتين ببعضهما لا أدري لماذا وأسوء ما كنت اخشاه ان اتورط مع شخص جاهل وهذا لا يعني الدرجات العلمية بالضرورة، فأول ما يلفت انتباهي حتى يومي هذا مع من أقابل رجل كان او امرأة هو ثقافته، ويظل ايماني عميق  بــ(نتف اننا سنتفق) مع من هم مستنيري العقول وأهرول بعيدا عن الاغبياء المناطحون بشهاداتهم الجامعية الجهلة المتعالمين المتمنطقين، واحمد الله فزوجي متحصل على درجة علمية جامعية ومثقف وقارئ ومستنير شاعر وناقد (غير أنه مفلس اكثر مما تخيلت)، نتحايل على عسر اوضاعنا المادية حيناً بالاشتراك في (الجمعيات) وهي جمع من الناس يدفعون لبعضهم مبلغ من المال متفق عليه يأخذه من يأتي عليه الدور بالقرعة ، فكرة تشبه القرض غير انها حلال وبدون فوائد وأحيان اخرى بسياسات تقشفية ولا نلحق ابدا بركب الاسعار ذو السرعة الصاروخية وما نزال نعافر الحياة الفاحشة الغلاء في بلاد فيها:
أحلامنا
كأطفالِ القطط
يقتلها الجوع والبرد
وتدهسها عجلات السيّارات**.

ما أروع مذاق قهوتكن الساخن أيتها الغريبات.
نيوكاسل
ابريل 2009
______________________________
*كلمة(جوردي) تطلق على السكان المحليين لمدينة نيوكاسل.
**قصيدة (مغامرة) للشاعر رامز رمضان النويصري

هناك 4 تعليقات:

نور اليقظة يقول...

أحلامنا كصغار القطط
يقتلها البرد والجوع
وتدهسها السيارات

غير معرف يقول...

السلام عليكم ورحمة الله ..

أتابع قلمك منذ زمن وكم استمتعت بما تكتبين .. فأدام الله القلم وصاحبته .

أستاذة كريمة حبذا وتكرما منك لو تنورينا وتكتبي مقاله مختصرة عن موقف المرأة الليبية من الانتخابات الأخيرة إن أمكن ذلك .

مع وافر شكري وتقديري
أخوك في الدين والعروبة
عبدالرحمن من السعودية .

وليد يقول...

نتمنى كل الخير للشعب الليبي وان شاء الله تتحسن الأوضاع السياسية والأمنية بليبيا في المستقبل القريب

زنوبيا الشهــيبي يقول...

لــي عودة ^^ لأتمعن أكثر ..

كل عام وأنتي بخير