تحية طيبة وبعد.
لم أدر أن نشري لهذا الموضوع سيثير هذا الكم من التعليقات الغاضبة من حولي، فهذا الإدراج كان من باب الوقوف على أحدى الظواهر التي نعيشها كمجتمع ليبي صغير في مدينة نيوكاسل (بريطانيا)، حيث لا يقل عدد الأسر الليبية المتواجدة هنا عن الخمسين أسرة ليبية، هذا دون حساب الموفدين غير المصحوبين (من شبابٍ وشابات).
وكما عرّفت مدونتي، فهي يوميات (أو شبه يوميات) أجمع فيها بعض الملاحظات عن حياة الجالية الليبية في هذه المدينة، لذا فإني بشكل أساسي أحاول مناقشة ما يدور من ظواهر اجتماعية، سواء كانت هذه الظواهر نتاجٍ مباشر عن جاليتنا الليبية هنا، أو ما يتماس معها.
وموضوع الموفدات غير المصحوبات (أو العازبات)، يندرج تحت هذا البند، فهن كمجموع في هذه الجالية يمثلن رقماً لا يستهان به، ومن السهل تميزهن في هذه الجالية الليبية، كون أغلب الليبيون يسكنون قريباً من بعض، بالتالي من السهل على العين التقاطهن والسؤال عنهن. فعدد الموفدات غير المصحوبات (أو العازبات) يقدر بما يزيد عن الـ(15) موفدة، يدرسن تخصصات مختلفة، وهن يسكنّ بشكل جماعي: من اثنين إلى ثلاثة في كل منزل. أو يشاركن غيرهن من الطالبات العربيات أو الأجنبيات وحتى العائلات الإنجليزية أو الباكستانية والهندية المسلمة.
صدمني هنا وجود هؤلاء الموفدات دون صحبة، وأعني الصحبة الشرعية، فقبل وجودي بنيوكاسل. فحينما كنت أسمع عن إيفادٍ لطالبةٍ، فإنه عادة ما يذكر إنها إما تزوجت، أو ذهبت بصحبة أحد أفراد أسرتها لإكمال دراستها. لكن ما عشته وعاينته هنا هو العكس تماماً، وهو ما أوقفني في مواجهة الحقيقة، أو الهوة التي يعيشها مجتمعنا ويتعامل بها مع مثل هذه الأمور، ففي الوقت الذي يؤكد فيه مجتمعنا –المحافظ- على تمسكه بقيم الإسلام وعاداته، فإنه لا يرى من ضير لإرسال ابنته دون محرم للدراسة بالخارج، خاصة وإن كان هذا الخارج غير مسلم ويكن للإسلام الكثير من الحقد والضغينة.
أكثر من 15 موفدة دون محرم، كيف يمكن تقبل مثل هذا الأمر؟!، خاصة وإن مدة الإيفاد تتراوح بين: الثلاث سنوات –لإجازة الماجستير-، والأربع سنوات –لإجازة الدكتوراه- وقد تصل لخمس سنوات. حتى لو قلنا أن أحد أفراد الأسرة كان بصحبتها وأمّن لها مكان الإقامة في البداية، إلا أن الشريعة لم تبح للمرأة المسلمة أن تبقى بعيداً عن أسرتها دون محرم شرعي. أو السكن مع أجنبية (أو أجنبيات) هن في الحرمة كحركة الرجل. هذا يؤكد إن مجتمعنا الليبي، تخلى عما يظهره من تمسك بالعادات والتقاليد، والتأكيد على أصالته. فمثلاً: (حنى نوصلوا البنت للجامعة ونروحوا بيها. ونرفعوها لحوش صاحبتها بعد ما نسألوا على عايلتها، وإذا تخرجت من الجامعة وتحصلت على فرصة إيفاد، يخلوها تطلع بره بروحها). إحدى الموفدات غير المصحوبات (العازبات) أقسمت لي إنها لم تبت ليلة واحدة خارج بيت والدها، الذي كان يعارض ذلك بشدة، حتى لبيت الأعمام والأخوال. لكنه أرسلها لبريطانيا عند تحصلها على الإيفاد. أي تناقضٍ هذا اللي نعيشه. وكيف يمكننا تفسير هذا الأمر:
- إن كان إرساله لها يعني ثقته بها، فكان الأولى أن تكون ثقته أكبر وهي بين عائلتها وأسرتها، ومجتمعها المسلم.
- أما منحها الفرصة للحصول على أعلى الشهادات، فكان لابد له من التضحية بصحبته ابنته، أو أحد محارمها.
- وإن كان الإيفاد يعني ما يتقاضاه الموفد من منحة بالعملة الصعبة، ولذلك يرسل ابنته، فهي لعمري ثالثة الأثافي.
إن مسؤولية الأسرة لا تقف عند تأمين متطلبات الموفدة غير المصحوبة (العازبة) في بداية تواجدها، إنما يتعدها للمشاكل التي من الممكن أن تتعرض لها الفتاة، فكما حدث لمجموعة من الموفدات إلى (كندا)، فقد تأخر التفويض المالي للموفدات لحوالي 3 أشهر، مما أجبر بعضهن على العودة، لأنهن لم يستطعن تدبير أمورهن، أما سعيدة الحظ فقد أرسل لها أهلها ما يلزمها.
ثاني الأمور التي حدت بي لكتابة هذا الموضوع، هو ما تعيشه هؤلاء الموفدات من حالة صدام حضاري أو لنقل حصار فرضنه على أنفسهن نتيجة عدم تقبل الأسر والعائلات الليبية لهن، وإبعادهن عن محيطهن قدر الإمكان. فهن لا يحضرن المناسبات التي تقام أو اللقاءات الاجتماعية، ولا حتى حفلات المعايدة التي يقيمها اتحاد الطلاب (وهن عضوات به، ويدفعن بشكل شهري لمكتب الطلبة). إنهن يعشن في عزلة مزدوجة:
- عزلتهن بإقصائهن أنفسهن، وإدراكهن لحقيقة عودتهن للبلاد، وليبيا بلد صغير، من السهل أن تنتشر فيه الحكايات.
- وعزل المجتمع هنا لهن، وعدم تقبله لهن.
بالتالي قد تدفعهن العزلة إلى ممارسة حياة المجتمع الذي يفتح لهن بابه ونعني المجتمع الأجنبي، لأنه مجتمع منفتح ولا مكان فيه للحواجز، وعليك وحدك أن تتحمل مسؤولية ما يحدث.
صدقوني، إن الأمر أكبر مما حاولت كتابته، وإنه الجرح العميق بالخاصرة، فهؤلاء الموفدات جزء من نسيجنا الوطني لابد من الحفاظ عليه، وما أوردته هو ما يدور هنا في نيوكاسل، حتى المفردات والصفات هي الصفات التي تستخدم هنا في هذه المدينة الإنجليزية. لقد قمت برفع الغطاء فقط.
أما فيما يخص التعليقات:
شكراً للإخوة المعلقين وللأمانة قمت بنشر التعليقات كلها دون حذف أي منها، والتي تفاوتت من تحليل فعّال وموضوعي لمشكلة حقيقية قائمة نغفل عنها (بغض النظر اتفقنا أو اختلفنا)، إلى القراءة السطحية على مبدأ (لا تقربوا الصلاة) والاختفاء وراء الأسماء المستعارة أو اللا أسماء، إلى الإهانة والتجريح والسباب، مع تعليق وحيد لـ"نسيم ليبيا" يلطف الأجواء مع ملاحظة أن هذا أول إدراج في مجموع الـ24 إدراجاً تصلني فيه تعليقات مجهولة الهوية وبدون أسماء أو تعريفات لأصحابها. ما الذي يعنيه ذلك:
1- أن هذه التعليقات لا تحمل أياً من أشكال المصداقية، لأنها تختفي وراء المجهول، والشجاع منها ذكر اسماً مجرداً كـ: حميدة/ الراجحي.
فهناك 12 تعليقاً هجومياً مجهولة النسب من أصل 22 تعليقاً، وتعليقان باسمين مجردين أو منكرين (بمعني غير معرفين من النكرة، حتى لا تفهم إنها من المنكر). (حتى تاريخ هذا الإدراج).
2- أن تكون بعض هذه التعليقات وردت عن شخص واحد، أو شخصين، تبادلا الكتابة، للشبه الكبير بين الأسلوب في بعضها.
3- أننا لا نزال نتخبط في حالة من البدائية يعكسها أسلوب مناقشة المعلقين للموضوع، وأننا أبعد ما نكون عن النقاش الشفاف السليم. الأمر الذي يميع طرحنا للقضية ويبعد الكثير عن مناقشتها بطريقة سليمة. وأنا لا نزال ندس رؤوسنا في التراب على طريقة صديقتنا النعامة، ونخاف من يعرينا أمام عيوبنا، نكرهها ونكرهه، نغطي (عين الشمس بالغربال) و لا نزال ننحدر إلى الأسوأ والأسوأ.
وعلى كل حال، أدعوكم لمعاودة قراءة الموضوع، والتعامل معه بشكل موضوعي وشفاف، لأن الكثير من التعليقات أعتقد إنها لم تتجاوز القراءة السطحية، ووقفت عند بعض النقاط. فمثلا:
- استنكرت بعض التعليقات استخدامي لمفردة (عانس) وأنا أتبعتها باعتذار، لكن الأمر في حقيقته أنه المصطلح المستخدم هنا في وسط المجتمع الليبي شئنا أم أبينا.
- كما وعلق البعض على جملة (ماحد يأمنلها تدخل بيته). كيف يمكنني إنكار هذا الواقع، فهن غير مدعوات للقاءات النسوية ولا الحفلات. في رمضان مثلا قد يدعوا الزوج زميله الموفد غير المصحوب (العازب)، وهذا يحدث كثيراً. أما الموفدة غير المصحوبة (العازبة) فلا بيت مفتوح لها.
- بعض التعليقات استغربت من تلميحي لما يتقاضينه من منحة شهرية، وإشارتي كانت أن هذه المنحة تفتح أمامهن الكثير ليفكرن بإجراء عمليات التجميل والتنقل والسفر الداخلي.
- أما مسألة الشرف، فالله يشهد أني لم ألمزهن ولم أقذفهن في أعراضهن، لأني أعلم مقدار الإثم الذي يلحقني جراء قذفي أو لمزي لهن. أما من نالني في تعليقه، فالله كفيل به. ومسألة الأسماء فقد أشرت في نهاية الإدراج، أن الأسماء المستخدمة هي أسماء مستعارة وغير حقيقية.
- بخصوص التعميم، أنا لم أعمم، أنا حددت منذ البداية المجتمع الذي أتحدث عنه، وهو الجالية الليبية المكونة من الطلبة الموفدين للدراسة ببريطانيا وتحديدا، مدينة نيوكاسل (أو كما تعرف: نيوكاسل التي على ظهر التاين).
- بخصوص الصدق من عدمه، خاصة لمن علق أنه لا يصدق ما أقول، فالله يشهد على صدقي وتوخي لقول الحقيقة والصدق، وسيحاسبني الله حال كذبي.
- في موضوع التفوق، أنا سعيدة لأن هناك متفوقون (شباب وفتيات) تحصلوا على فرصة إكمال تعليمهم بالخارج، لأن اللذين يتحصلون على البعثات هم أصحاب (الواسطات والكتوف العراض). الأمر لا علاقة له بالاجتهاد. خاصة في وجود أكثر من حالة لطلبة تخطوا مدة الإيفاد بكثير حتى وصل بعضهم لعشر سنوات لتحصيل شهادة الدكتوراه، ولم يتحصل عليها بعد. يعني: هذا خدى دوره، ودور اللي بعده.
- ثم لا أعرف إن كانت بعض التعليقات هي لموفدات للدراسة بالخارج، أو درسن أم لا؟
في الختام دعوني أدعوكم لقراءة ما كتبته مدونة (هايم في حب بلادي) حول هذا الموضوع تحت عنوان (الــعــريــس VS أخـتـى حـواء ... الـدراســه)، وأعتقد إن طرح صاحب المدونة، كان طرحاً موضوعياً. وأسرد لكم هذه القصة التي جرت في أحد اللقاءات النسوية. وكانت بمناسبة وضع أحد السيدات الليبيات لابنها البكر (السْبوع)، وتطرق الحديث إلى الموفدات غير المصحوبات (العازبات)، وهن كالعادة لم يكن مدعوات. فانبرت إحدى السيدات بالدفاع عنهن، كون أختها موفدة للدراسة بالخارج (بكندا)، وتعيش لوحدها، بعد شهر من صحبة أخيها لها. لكن أحدى السيدات أحرجتها بسؤالها:
- باهي، ترضوا تجيبوا كنه، قعدت سنتين أو أربع سنين تقرا بره بروحها.
صمتت السيدة، ولم تتكلم، وتحت الإلحاح أجابت:
- (هزت برأسها).. لا منجيبوهاش.