بسم الله الرحمن الرحيم
َقالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً{67}
سورة الكهف.
كلما ضاق بي الحال وغصت المرارة حلقي، أجد هذه الآية بعبرتها ماثلة أمام عيني (قال إنك لن تستطيع معي صبرا)، وأعرف أن هنالك ما يكمن وراء الغيب، في علم الله، لا ندركه لكينونة آدميتنا أو لعجز بصيرتنا، وربما لاستعجالنا في تفسير الأحداث ومجرياتها، وأعرف أنني لا أستطيع صبراً، رغم مجالدتي أظل أمسك جمر عقلي القاصر، أحاول أن أدفع بنفسي إلى الأمام، أن أتجاوز وجعي وألتف عليه، ولا أزال مشتتة وممزقة، ألتجئ إلى المدونة، أريد إكمال بعض المواضيع الناقصة، وإدراج المواضيع الجاهزة سيراً على خطة تدوينية تقديرية أحاول اتباعها فتنازعني نفسي للكتابة عن جدتي، أقلب الصفحة وما أن أوشك على التقاط فكرة أبدأ منها، حتى تنهال الذكريات سيلا تمنعني إلا من البكاء والبكاء. لست المرأة الضعيفة ولا المستسلمة، لكنني أيضاً لست تلك المتجردة الصارمة، يملؤني الحنين إليها وأعرف إنني لن أجدها تنتظرني. غرني الأمل الغرور و(لن تستطيع معي صبرا)، ولعل هذا أسوء ما في الغربة وفراق الوطن، المسافة القصية التي تغيبك رغما عن وجود (كذبة كبرى هي وسائل الاتصال والمواصلات المتطورة) ستظل معزولاً، تحت رحمة من يحمل الخبر، يعلمك أو يقصيك، تبعد المشقة ولا خيار.
وهنا الشيء بالشيء يذكر، هذه بعض أخبارنا في هذه البلاد البعيدة، بعض أوجاع الغربة، هناك من اكتوى بألمها، وهناك من لا يدري، فإلى اللذين لا يدرون ويرون جانباً واحداً من عبارة (قاعد عايش برا.. وإلا طالع بعثة.. وإلا هج وما عادش يبي يروح)، هذا لعمري أصعب ما في الاغتراب.
عند وصولي نيوكاسل، كانت هناك حكاية مريرة تحكيها النسوة الليبيات، حكاية لا أعرف بما أصفها، أترك الحكم لكم.
سيدة انتقل والدها لرحمة الله تعالى، بلغ الأهل الزوج الذي أخفى الخبر عنها في ظل اعتراض شديد من جيرانه (الليبيين) اللذين طرح الأمر عليهم للمشورة -ولم يأخذ بها-، الأزواج (الجيران) أخبروا زوجاتهم والكل يعلم، عدا الابنة التي ثكلت في والدها، يدور من حولها الصمت الرهيب وترقب الجميع مما تخبئه لها المفاجأة.
لكن لماذا خبّأ الزوج حادثة الوفاة؟!
ليس خوفا على مشاعرها، ولا رهبة من هول حدث كهذا يتم نقله تحت وطأه مرارات الغربة، لكن لأن: (المنحة قريب اتم، ومازال عليها شهرين بس وبدل ما نخبرها توا وتكلفني تذاكر ليها وللصغار خليني أراجي واصلا هي شن بترده)، ولعل هذه الـ(شن بترده/شن بيرده) أكثر العبارات تكرار، وحاشى لله الاعتراض على حكمه، لكني أجدها عبارة مقيتة، يوظفها البعض لمصالحهم، أو لتبرير ما يفعلون، فهنا البلاد بعيدة والتذاكر غالية، وكما حدث مع (السيدة الليبية) يزج الأمر برمته تحت خانة (شن بترده)، وماذا بعد؟
التهم الصمت لسان الجميع، والسيدة الليبية غافلة، ومن عادة الليبيات هنا في نيوكاسل (على ما رأيت) أنه حين يحين موعد الرجوع إلى الوطن، يحتفلن بأنفسهن وأبنائهن، فكأنه العيد أو هو ذاته، الثياب الجديدة والحلي، يتجهن إلى مصففات الشعر (المزينات: الصبغة وحتى الميش والعناية بالبشرة والحنة، نعم الحنة باللصقة منقوشة وكحلة). وللحنة هنا شأن عظيم فهن يوصين عليها من ليبيا، ويحتفظن بها ويقتسمنها، ولا تعود إحداهن من بريطانيا إلى ليبيا إلا (بحنتها)، وهكذا فعلت السيدة الليبية –صاحبة القصة-، وجارتها تعترض: ليش الحنة مافيش داعي ليها.
- ولما لا داعي لها؟!
عادت السيدة الليبية إلى أرض الوطن، واتجه زوجها مباشرة إلى بيت أهله اللذين يقطنون مدينة قريبة من طرابلس، لزيارة استمرت 5 أيام التقوا فيها الأحباب، وتلقى سيادته التبريكات والتهاني لحصوله على شهادة الدكتوراه، وبعد أن انفض مجلسه، اتجه بزوجته إلى طرابلس لتلتقي بأهلها اللذين كانوا في حال يعلم بها الله.
- وين بوي؟؟
(صح النوم بوك ليه شهرين متوفي)
تقول جارتي، إن الصدمة أسكتت السيدة الليبية، التي نقلت للمستشفى على إثرها، وإنها لم تعاود النطق حتى تاريخ اليوم التي سمعت فيه قصتها، جارتي وهي صديقتها القريبة تداوم على الاتصال بأهل الصديقة علها تجد خبرا جديدا.
أي زوج هذا؟!، وأي محنة تلك؟
وفي حكاية أخرى لسيدة –ليبية- توفى والدها الصيف الماضي. حكاية ليست نقلاً عن أحد، بل شهدتها بنفسي فقد كانت جارتي، شاء الله أن يتوفى والدها فجأة وبدون مصارعة للألم أو المرض -سكتة قلبية- و(الله يرحمه) وبلغ الأهل الزوج، الذي أبلغ جيرانه الليبيين هو الآخر طلباً للمشورة والنصح والعون، واتفقوا على الآتي: اليوم الأول أخبرها أن والدها قد مرض فجأة وأنه تم نقله إلى المستشفى، اليوم الثاني حالته تدهورت وتم وضعه في (العناية) واحتشد بيتها بالجارات الليبيات يحاولن مواساتها والشد من أزرها (إن شاء الله ينوض بالسلامة). اليوم الثالث أخبرها أنهم أخذوه لتونس صباحاً، وكانت تهاتف أهلها (أخاها) وتطلب أن تكلم والدها فيجيبها تعبان لا يستطيع الكلام.. مساءاً أبلغها انه انتقل إلى رحمة الله، وكان قد جهز لعائلته تذاكر الطائرة وعاد بصحبتهم إلى ليبيا اليوم التالي لحضور باقي مراسم العزاء.
يجدر بالذكر، أنهم هم أيضا بعثتهم الدراسية كانت تشارف على الانتهاء، غادر الزوج بزوجته نيوكاسل وسط هالة من التقدير والاحترام يكنها له كل الليبيين هنا.
وغير ذلك، حكايات كثيرة تُحزم مع حقائب المسافرين العابرين المطارات، فهذه سيدة ليبية أخرى تلقت خبر والدتها التي تحتضر، فعادت من كندا بسرعة الريح التي تجاوزت السبع ساعات، ومن مطار إلى آخر، وقت أليم يمر ببطء، إلا إنها تمكنت من اللحاق بأمها في رمقها الأخير، لتنتقل إلى جوار مولاها بعد ساعتين فقط -من وصولها-.
سيد ليبي تلقى خبر وفاة والده -وهو طالب دكتوراه في لندن-، ولأنه طالب ووقته ثمين و(اللي مات الله يرحمه وما عندي ليش مروح.. شن بنرده!!)، استقبل العزاء ليومين، أنهى المراسم بعدها وعاد لأشغاله. لله العلم لكل إنسان ظروفه؟.
لكن ماذا حدث معي وأنا أسرد حكاية هذا وقصة ذاك، ما حدث معي ليس مختلف كثيراً، وقد اقدر على لملمة ذاتي يوماً وأكتب عن جدتي المرأة البسيطة وعلاقتي بها. أما الآن فسأكتب فقط عن علاقتي بوفاتها، وأظل أقول إنهُ أقبح ما في الغربة.
لا يمكنني الخوض في تفاصيل عائلية دقيقة ومسائل حياتي الخاصة، لكن الأمر على علاته يؤخذ هكذا. كنت طوال حياتي أو حياتها ملتصقةً بها، وما غبت يوماً عنها، عشت معها في بيتها أغلب سنوات عمري، وتكاد كلها، ولم نفترق إلا على شرف (البعثة الدراسية لبريطانيا).
كنت تزوجت لكن ظللنا معاً، وزجي تفهم الأمر كثيراً، فقبل زواجنا كان من أهم ما اتفقنا عليه: (وين ما أنا وين ما جداي.. ما نخليهاش وما نقعدش بلاها.. وهذا شرطي وإلا ربي يسمعنا على بعض الخير)، وبالحرف الواحد رد على طلبي: (جداك جداي.. واللي يعز عليك يعز عليا). وكان عند كلمته، حتى رن جرس الهاتف ذات صباحٍ باكرٍ، كنا لا نزال نتناول إفطارنا عند الثامنة، وبدون مقدمات فجأة رشحت الشركة زوجي "رامز النويصري" لدورة تخصصية إلى بريطانيا، للحصول على الشهادة الأوربية في صيانة الطيران، ومع سعادتي لحصول زوجي على هكذا فرصة هو يستحقها ولم يكن قد لهث ورائها، أو دق باب أحد، ولم يتسوّل عند عتبات المكاتب (يا سويدي تربح)، كان نصيبا بعثه الله له، على قدر سعادتي على قدر جزعي (باهي وجداي أنا ما نقدرش نخليها ونسافر سنتين).
ومع عرض وتمحيص لكل الحلول، لم يكن من بد، فزوجي عرض أن يعتذر عن البعثة، فهو قد التزم معي أولاً بجدتي وعلى حساب أي شيء، لكنني وجدته إجحافا في حقه (وكان صاحبك عسل ما تلحساش كله)، مهما يكون البعثة مستقبله، واتفقنا أن يسافر، وسأمهد لها الأمر ومن بعد ألحق به.
في البداية أخبرتها إنه سافر لمدة شهر في دورة دراسية قصيرة، التي أصبحت شهرين وثلاثة فكان لابد من السفر إليه، كنت أماطل الجميع، أماطل جدتي، ألف وأدور تمهيدا لمغادرتها لما يقارب العامين، أماطل زوجي وأصبره (الشهر الجاي نجيك، الشهر اللي بعده)، أماطل أهل زوجي اللذين ضاق بهم الذرع (تقول مش مكننين ولا درنا كنه.. مخليتيه بروحه)، أبي يقول (ما تخليش زوجك في الغربة بروحه زوجك ولد حلال)، أمي كرهتني (إنت من لايم عليك جداك هذي عندها ولد.. واحنا ما نخلوهاش اردوا بالنا منها.. الحقي زوجك خير ما تلقيها خاربة)، وهي فعلاً (خاربة)، كان قعدت يا ويلي زوجي.. وكان سافرت يا ويلي جداي.
وسافرت بعد خمسة شهور، كان من أصعب القرارات، سافرت وأنا أمني نفسي سأعود بعد شهر أو شهرين، ودعتها (سلمت عليها وطلبت منها السماح، قالت: الله يسمح بنيتي.. أنا راني ما نقدر نقعد بلاك).
وسافرت إلى بريطانيا العظمى، وأنا (ضاحكة على روحي شهر شهرين بالكثير ثلاثة ونروح، مش قتلكم: اكذب على رجلك تمشيك.. آهي أنا، وصلتني لبريطانيا بالكذب عليها).
كانت جارتي، د. ثريا -الله يمسيها بالخير- تقولي: (سافري يا كريمة والحقي زوجك، راهي بلاد تظلم الساعة 3 الظهر)، لكني لم استوعب نصيحتها حتى هللت على بريطانيا العظمى، ظلماتها فوق ظلمات، الحياة هنا مقيتة بما تعنيه الكلمة، البرد والثلج والظلام، لا وجود لشيء يدعى شمس (صدق القذافي حين قال: راهم مستعدين يحتلوكم علشان الشمس).
حال وصولي سمعت بسيدة ليبية اصطحبت أمها معها، فليس لها غيرها من معيل، وتحصلتُ على عنوانها واتصلت بها، دعتني إلى بيتها، كنت أفكر في إحضار جدتي هنا إلى نيوكاسل، لكنني كنت مترددة قليلا فليست التأشيرة بالأمر السهل، وكما ظننت كانت تأشيرة الأم ضرب من المستحيل لو لا مشيئة الله، و زوج هذه السيدة الليبية رجل محترم جدا، فهي الأخرى اتفقت معه (ما عنديش في الدنيا غير أمي، ربتني يتيمة وهي تربت يتيمة وما نسيبهاش). الزوج الذي تعهد لزوجته بأن (أمك أمي) كان عند كلمته، وإن لم تتحصل (الأم/النسيبة) على تأشيرة لكان اعتذر عن الدورة، وسبحان الله، كن مع الله يكن الله معك ،(لما الإنسان يصفي النية قداش ربي عنده من خير)، وآخر المطاف لا مجال للمقارنة بين أم صديقتي وجدتي، فأمها ليست طاعنة في السن، وتملؤها العافية والنشاط، أما جدتي فسترهقها عذاباً رحلة من ليبيا إلى بريطانيا، غير البرد الزمهرير الذي لن تطيقه.
لن أطيل السرد. جانب آخر هم الأهل، هم فعلا حالة مثالية للمواربة في كل أنحاء العالم، فصديقتي السورية آخر من يعلم، هذا إذا علمت، والأغرب، تعرفت على سيدة اسكتلندية متزوجة من رجل إنجليزي، قالت: إن أهلها لا يخبرونها بشيء أبداً حتى تزورهم، وفي آخر زيارة وجدت والدها في المستشفى وساق أخيها مكسورة.. هل نلوم أهلنا؟.
عن نفسي، أفعل وأجد لهم العذر في ذات الوقت، ولا أقبله، يخافون علينا أو يخافون من نقل الأخبار السيئة أو (باهي شن بدير لو كان قلنالك، باهي ليش نشغلوا فيك ونخلوك تخمم)، وهذا كلام صحيح وقاسٍ.
أعود، لن تستطيع معي صبرا، أتخيل مشهد ذبح الغلام في الآية واعتراض سيدنا موسى عليه السلام: (...أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً{74} سورة الكهف)، أتخيل أم الصبي، أي جزع تكون فيه عندما تجد ابنها مسفوك الدماء، لكنها الحكمة الإلهية (لن تستطيع عليها صبرا)، سيرهقها ووالده بكفره يوماً، فذُبح عسى الله أن يعطيهم خلفاً أفضل منه على دين وخلق، يبني الجدار (باهي ليش؟ لقمة ما بوش يعطوهم ولا جرعة ميه، يبنيلهم حيطهم الطايح ليش؟، الله لا تردهم) ويكون الحائط لميراث يتامى؟، ولا تقف السيرة عند خروج سيدنا موسى عليه السلام مستسلما معترفا بعجزه، هذا فراق بيني وبينك، وإن لم تخبرنا السورة المزيد من القصص والعبر، وهذا لا يعني إنها انتهت، لربما كان هنالك الأغرب ولا يزال، من يدرك مجاهل الغيب غير العليم به.
وأجد نفسي أدور حول ذات المركز، أي حكمة يقصر عقلي الوصول إليها، كم كنت لصيقة بجدتي، أحفظها عن ظهر قلب، أعرف موعد نومها واستيقاظها، ماذا تأكل وما لا يعجبها، تفاصيل دقيقة يعجز عنها الآخرون بما فيهم أبي وأخوتي. جدتي تحب الخبز (الفرادي المدورات)، لازم نجيبه الساعة عشرة الصبح من (دكان مالك بالتحديد)، وبالرغم إن الأخ "مالك" يجيب في الخبز أحيانا أبكر وأحيانا يتأخر، لكن جداي تبيني نمشي الساعة عشرة وإذا لقيتها وجبتها كويس، وإذا ما لقياتش نولي، ليش الساعة عشرة، حاجة في عقلها، لازم تكون رطيبة ومن قعر الصندوق، ما تجيبيش اللي شادة الهبو والوسخ. الحليب، الغذاء الأساسي، الفطور خبزة وحليّبة، والعشاء حتى هو(نخلت فيه بشوي عصير ما نحبه ساهي)، حليب جهينة واخذ الامتياز عندها، ومشكلة كان بعثت حد وجابلها نوع تاني، وفي الأصل ما يركزوش ويسحابوه سوا، لكن عندها ما يتساواش، وما حد فاهم طبعها غيري: أنا قتلكم كرييمة هي اللي تجيبلي اللي نبيه انتم ما تعرفوا تسوقوا كيفها.
الخضرا مش مشكلة، لكن من يقدر يزبط شن تبي، الباذنجان في القائمة السوداء، والفلفل الحلو (شن لله بيه)، كان بتخضر جيب السفناري والفول الأخضر، والبصل الأخضر والثوم.
أوصتني وأحفظ وصيتها: لما تحين المنية، مية زمزم في الدولاب، مدسوسة في مكان نعرفه، (الخلوط من مسك وغيره) في قجر الشكماجة، والكفن بحداه، وتسألني كيف يغسلوا الميت، وكيف يكفنوه، وين تحين المنية ردي بالك، في غسالات يلبزن...نعرف كل شي وحفظت كل شيء.
كنت نخاف لما نحسها مسكتة، نص الليل انوض من نومي ونمشي لدارها، أول شي من ورا الباب كان سمعتها (تنخط) نحمد ربي ونعرفها قاعدة حية، وندف الباب بالشوية بيش نشوفها تتنفس، في الصبح تنوض قبلي تصلي في الفجر، نسمع باب الدار لما ينفتح وتطلع وتخش الحمام و تتوضا، ونسمعها لما تدعي في عقب كل صلاة صبح:
يارب لقني الشهادة يوم الدين وجواب الملكين (كورب وبن كورب) لا اله إلا أنت، وحدن لا شريكن ليك، ومحمد النبي والقران الكتاب، والكعبة القبلة.. يا رب احفظ (فروجة=فرج) وليدي واجعل يومي قبل يومه ولا تفجعني فيه، احفظه من حوادث السيارات ونايبات الزمان، ولا ادول عليه رجالنا رجال، ابعد عنه اولاد الحرام وكالين رزاق الايتام.
هذا دعاء جدتي منذ عرفتها وبدأت أعي ما حولي، وتلك وصيتها وأمانة أوكلتها لي لم استطع أن أؤديها، ولا أزال أبحث عما لا أطيق عليه صبرا، لكأني فطمت فطاماً من جدتي، وجررت جراً، تركتها حتى أعود ولم أفعل حتى رحلت، أهلي في كل مكالمة هاتفية: (جداك ما شاء الله عليها أحسن مما خليتيها). ومن النادر ما أتمكن من محادثتها، فهم دائما يتذرعون بأنها نائمة ونائمة ونائمة.
لم أصدقهم، ولم يكن لي خيار غير أن أقلل مكالماتي الهاتفية لهم، أخبروني أنها كانت تسأل عني وتناديني، فيجيبونها (جاية في الطريق قريب توصل) وبالرغم ان زوجي حجز لي تذكرة ذهاب لزيارة ليبيا الا ان اهلي اقاموا القيامة (ليش جاية ما عندك عليش جاية خليك مع زوجك احنا ما فينا شي وجداك حالها باهي) وإضافة الى وعكة صحية مررت بها، تساهلت والغينا الحجز، فقد وعدوني (نحطولك جداك قدام كاميرة النت تهدرزي عليها وتشبحيها لين تشبعي) ولم يفعلوا.
أظل أبحث عن ضالتي لما لا أطق عليه صبراً، أجد عذر في ذلك، لعله من تدابير الله هذا الفراق، فلن أذيع سرا لو قلت انه في يومٍ ما كانت علاقة جدتي بأمي علاقة متوترة (العزوز والكنة)، وجدتي ظلمت أمي كثيراً، لعل أبعادي عن جدتي سمح لهما بالالتقاء من جديد، لتسامح أمي جدتي وهذا يعزيني كثيراً، لعلها أيضاً تعبت من انتظاري، (اني جاية، غير الإجراءات الصعبة وبلاد ما هيش ساهلة، وهي ما عادش عندها وقت، استنتني، استنتني ولما طولت ما جيتش، مشت) وأنا أيضا غرني الأمل، والأمل غرور (نقول اهي استنتني، وليا عام غايبة وتراجي فيا، وليا عام ونص وتراجي فيا، وخلاص انا بنروح شهرين تانيات أكيدة تستاني وتراجيني، لكن أمنياتي كلها قعدت حسرة في قلبي) وما يدريني؟، يتعبني التحليل والتفكير، وأريد إنهاء الدوامة فليس إلا فراق بيني وبينها، ولا أصل لتأويل ما لا أستطيع عليه صبراً.
لعله يكون كما قالت جارتي د.ثريا التي فقدت أمها وأخيها منذ فترة قصيرة: ما تخافيش يا كريمة وما تبكيش، بنتلاقوا بيهم إن شاء الله، وما يكونش بعيد.
ليرحمك الله يا جدتي وليغفر لك ولي، علنا نلتقي قريبا من جديد.
____________لا تنسوها من دعائكم ____________