ما فعلتِه يا ثورة فبراير بالمجتمع الليبي خطيرٌ جدا، لقد كشفت
المسكوتُ عنه من عقلية ليبية لا تنفك تتشدق بالتدين وبالإسلام فأفرزت شريحة أثناء
الثورة من بعض الموالين للقذافي، المهووسين والقتلة والمارقين اللذين ابتدعوا كل
بشع لإرضاء آلة الدم المتوحشة والنهمة لأجساد الليبين وأعراضهم وأموالهم، ثم ومن بعد
إنتصارك خرجت علينا ذات الشريحة بذات
الصفات من قتل وتعذيب وخطف واغتصاب غير أنها تقف على الجانب الآخر منتمية الى
فبراير الثورة، هكذا ظهر أسوء من فينا حين وضعنا على المحك، ذات المحك الذي أخرج
أجمل ما في الليبين من تلاحم أيام حرب التحرير والذي قاد مخاضاً طويلاً وعسيراً لولادةِ
حريةٍ تجرثمت عليها وتكاثرت تكوينات هجينة
بعضها سياسي، وأخطرها العسكري فانتشرت على طول البلاد وعرضها تشكيلات لميليشيات مسلحة،
بعضها يدعي التوجه الديني والاخر ذو توجهات عصبية جهوية وثالث لا يهمه إلا ما
يحمله بين يديه من غنائم وسرقات مستغلين حالة الفوضى التي تعم البلاد وغياب الجيش
والشرطة، وكان لي مع عائلتي نصيب من تجربة مع هؤلاء: ثلاث سيارات تتبع اللجنة
الامنية العليا بدون لوحات تطوق بيتنا عند الثالثة والنصف صباحا وتهاجمنا عناصرها
المدججة بالسلاح والمخمورين معلنين نية السرقة والقتل وهذا ما حدث معي:
"الهجوم"
لست ممن يستغرقون في نوم عميق، وأبسط خشخشة تشق سكون الليل توقظني،
وفي هذه الليلة، السبت عند الثالثة والنصف الموافق 22/2/2013 تناهى لسمعي دوس
أقدام في فناء البيت قريبا من الباب، استيقظت واعتدلت في مكاني ظناً أن أخي عاد ومعه بعض الضيوف للمبيت
وهذا يحدث كثيرا!، عندما راح الباب يُقرع كنت أحاول إيقاظ أختي الصغرى (18)عام
لتفتح الباب فلست بأفضل أحوالي الصحية لأغادر فراشي بسرعة وأنا مثقلة بحملي في
الشهر الثامن، ازداد الطرق بقوة وصوت ينادي من الخارج: (افتحوا..افتحوااااا)، فردت
أختي الأخرى وهي أم لثلاث أطفال (أن من يطرقُ الباب؟ من أنت؟). في تلك الحظة
استشعرت انه ليس بأخي غير أن ظني رجح أنه أحد الأقارب الذي قد يأتينا مسافراً ليجد
مكاناً للراحة بعد رحلته من إحدى المدن الى طرابلس، هي ثواني ليس إلا لأدرك أن
القارع لص، لصٌ مخمور بدأ في الصراخ: "هاتوا
مفاتيح السيارات اللي قدام الحوش ، طلعوا تريسكم، افتحوا الباب، احنا مداهمة من اللجنة
الامنية العليا" والكثير من العربدة. حاولت أختي مجادلته: (كيف نفتح الباب
انت سكران شوفلي حد فايق نتكلم معاه والا تعالي بكرة يا مداهمة..الخ)، عندما سألته
عن اسمه أجابها (حسين). هرعت استفقد أخي إن كان ينام في حجرته حين اطلق المخمور
الرصاص في الهواء فأرعبتني وتعثرت في ثوبي وسقطت على ركبتي وبطني واصبت فيهما. لم
أجد أخي في فراشه، انه يبيت في الخارج والوالد والوالدة يبيتان خارجا ايضا في
مناسبة اجتماعية ولا أحد سواي مع طفلي وأختاي ذات ال18 ربيعا والأخرى ام الأطفال
الثلاثة وأخ آخر يبلغ الـ19 عاما، اجتمعنا تلك الليلة في بيت والدي.
جاء أخي ذو ال19 عاما متعثرا من فراشه يغالب النعاس ويظن ان الوقت
عشيه، فقد كان صائما واختلط عليه الوقت
فيما كنت احاول إفهامه أن لا يتكلم بصوت مسموع لعل وعسى تنجح محاولات اختي
ومفاوضاتها في إبعادهم، غير أن الموقف تطور بشكل سريع جدا عندما توالى إطلاق
الرصاص في الهواء ثم وجهوا أسلحتهم نحو باب البيت محاولين اقتحامه وبدؤا في إطلاق
النيران.
أخرج أخي بندقية روسية قديمة وملئها ذخيرة بمساعدة أختي الصغرى، أخذت
بعض الاطفال الى الغرفة الداخلية التي كنا ننام فيها بينما قفزت أختي نحو غرفتها
مع ابنها وابنتها والتي من سوء حظها كانت مقابلة لباب البيت لينصب عليها وابل
الرصاص( الخارق حارق) الذي كان يخترق باب البيت الحديدي وباب غرفتها الخشبي ويصطدم
بالحائط ويفزع الصغيران اللذان راحا يصرخان مذعوران.
هي دقائق حتى اشتعل المكان بالرصاص والشتائم والتهديد، عندما سحب أخي
تأمين البندقية ليبدأ في الرد عليهم انتبه أحدهم وقال (حيييه صوت سحبة يا اولاد)
وكان ردهم على ذاك الصوت جنونيا فأمطرونا بارود وأصيب أخي برصاصة في فخده. اتصلت
بزوجي الذي كان يعمل خارج المدينة تلك الليلة وأرعبه ما سمع من أصوات القصف
والضرب، بدوره اتصل مباشرة بالنجدة بـــ(1515) وطلب منهم الغوث معطيا إياهم
العنوان ورقم هاتف أخي، وفعلا وصلت النجدة لكن بعد أكثر من 4 ساعات من وقت البلاغ
وبعد أن أنتهى كل شئ، وجدوا أخي يجلس أمام فناء البيت وبيده بندقيته ورد عليهم حين
سألوه : (احنا جانا بلاغ عن مداهمة هنا؟ وينها و وين ترخيص سلاحك؟!)، فرد عليهم (انا بروحي ردع مش مستحقكم، صح النوم)
وطردهم.
الهجوم بدأ الساعة 3:36 واستمر حتى الخامسة صباحا قاومهم أخي قدر
المستطاع ورد على نيرانهم الكثيفة بعزيمة وبمساندة أختي الصغرى، أنظر اليه وأقول:
سبحان الله لقد وضع الله فيه قوة 100 رجل، كان يرمي عليهم الرصاص من خلف الباب ثم
يقفز الى نافذة الغرفة المجاورة ويعود للباب مرة أخرى واختي تسانده وإن كان هناك
سلاح آخر لأبلت مثله وربما يزيد، هذه المناورات والقنص من عدة أماكن جعلتهم يظنون
أن هناك أكثر من شخص مسلح داخل البيت وعتاد وذخيرة، وكونهم ثمالى كان تركيزهم على
الباب فقط دون أي مناورات أخرى فقد أعماهم الله. بكاء أطفال اختي ونواح أمهم جعلهم
يظنون أن هناك قتلى في الداخل، حاولت أختى الصغرى أن تستنجد بالجيران وراحت تصرخ
من نافذة الغرفة الخلفية بعد أن اشرعتها غير مهتمة أن قنصوها برصاصهم، ولا مجيب لاستغاثتها. خطر ببالي ماذا لو نتسلل
من الباب الخلفي الذي لم ينتبهوا له. ماذا لو نركض حتى نصل إلى أحد جيراننا فإن
اقتحموا البيت وجدوه خالياً، غير أن الحي الذي نسكنه عبارة عن بيوت في أراضي
زراعية تفصلها عن بعضها مسافات واسعة وكانت فكرة غيرذات نفع بوجود الكثير من
الأطفال وأنا يثقلني حملي في الشهر الثامن لا يمكنني الركض.
كلما ارتعد الباب يسألني صوت في داخلي: هل فُتح؟ هل اقتحموه وابتهال
لله وحده، الرصاص يصدع في كل مكان، على الجدران والنوافذ وفي السماء، ومع اقتراب
آذان الفجر وخروج المصلين للصلاة أمل في فرج من الله قريب، وغوث منه في فئة ظالمة
ما انفكت تهددنا بالقتل والسرقة.
"ما
بعد الهجوم"
شقشقة الضوء بدأت تكشف سترهم، الباب متماسك رغم مطر الرصاص والذخيرة
التي أفرغت فيه صهرتا ضفتا الباب فالتحما وصمد الجسد الحديدي أمام نيرانهم، حدثت
المعجزة حين لم يكسر قفل الباب بالرغم من محاولاتهم تفجيره فتجد الرصاص مغروس حوله
مخطئا هدفه بفارق ملليمترات صغيرة، لم يكسروا القفل فلم يُفتح الباب بعد كل هذه
الوحشية ركبوا في سياراتهم وغادروا. في تلك اللحظة كانت السيارات الثلاث في مرمي
رصاص سلاح أخي الذي أوشك على قنصهم حين راحت أختي الصغرى تتوسل إليه بأن يتركهم
يفرون فنحن لا نريد أن نقتل أحد، واستجاب لها.
أول الواصلين كان جارنا، الرجل الطيب في آخر ستينيات العمر، عندما
تأكد من مغادرة السيارات المعتدية جاء زاحفا على وجهه يرتعد في ذلك البرد الشديد
ويعتذر أنه لم يتمكن من مساعدتنا فليس بيده حيلة أمام ذلك العتاد أما غيره من باقي
الجيران فقد أنكروا أنهم سمعوا أي ضجة !.
وصل أبي وأمي في حال انهيار تام وكانت أمي تتفقدنا الواحد تلو الآخر غير مصدقة
أننا بخير، أخذ زوج أختي أخي للمستشفى لإسعافه من إصابته، ثم وصلت جارتنا زوجة
الرجل الطيب وهي مفجوعة ولا أزال أتذكر ملامح وجهها وقد كانت في حالة صدمة. في
فناء البيت وجدنا كلبنا الوفي يجر مؤخرته بألم وينطوي في ركن بعيد، لقد ضربوا ظهره
بأخمص البندقية فكسروه حين بدأ بالنباح عليهم؟ وسيارتي مهشمة تماماً، بالرغم من
طلوع النهار وتوافد الناس علينا الواحد تلو الآخر، إلا أن حالة من الريبة والترقب
جعلت الجميع ينتبهون لأي حركة غريبة أو سيارة مجهولة تمر فلعلهم يعودون؟.
"تداعيات
الحدث"
انتشر الخبر في المنطقة، اتجهنا الى مركز الشرطة بعد إستشارة المحامي فنصح أن كل من وصل السن
القانونية وكان بالبيت ساعة الهجوم يجب أن يفتح محضراً فهذه الجريمة خطيرة لا يسقطها
الزمن. مركز شرطة عين زارة أقل ما يقال عنه أنه بائس، جدرانه رمادية موحشة، يخلو
من أي أثاث والموجود به هو كراسي ومكاتب عتيقة ومحطمة، داخل حجرة التحقيق أكوام
الورق مكدسة في كل مكان مثلما الغبار، انتظرت أكثر من ثلاث ساعات حتى حضر ضابط
التحقيق الذي كان في مهمة خارج المركز، في البداية رفض فتح محضر لي عندما عرف أن
أخي كان قد سبقني بالتبليغ متذرعا أنه لا يمكن فتح أكثر من محضر لذات القضية وحتى
بعد ان قلت له أن هذه مشورة المحامي ظل مترددا، لكنني صممت على إكمال الاجراءات
القانونية فوافق وأخذ أقوالي، ثم ماذا؟ سألته، أنا مصابة في ركبتي ولا أشعر أني
بخير وسيارتي مهشمة، أجابني: لا شئ على الإطلاق، لا يمكننا فعل أي شئ أكثر من
إثبات الواقعة.
في المساء، استيقظت على صوت جدل، قطع قيلولتي الطويلة بعد عناء يوم
مرهق في مركز الشرطة، وفيما يبدو أن عودة الشباب المخمورين لمقرهم وتفاخرهم بما
حدث وأنهم تركوا ورائهم قتلى انتشر في بين اعضاء الكتيبة التي ينتمون إليها، فتم
التحفظ عليهم وجاء آمرها مهرولا لوالدي في إجتماع طارئ من غير موعد حضره بعض وجهاء
المنطقة والأقارب اللذين تنادوا مسرعين وتداولت فيه البنود التاليه:
*) ندين ونستنكر العدوان الآثم الذي وقع عليكم من بعض عناصر كتيبتنا
والذي تمنينا لو أرديتومهم قتلى.
*)بدورنا قمنا بمعاقبتهم وسجنهم ولن نتهاون معهم وسيتم إحالتهم الى
الجهات المختصة لينالوا العقوبة العادلة
يا أخي المواطن:
عائلتك عائلتي وبناتك بناتي ومن وصل الى باب دارك معتدي لا عذر له
ونحن بما أننا نعتذر لك ونأسف لما حدث....(انتبه فهذه المرة الأولى التي تعتذر
فيها كتيبة لمواطنين) فنحن نود إنهاء الأمر ودياً وعفا الله عما سلف، وغير ذلك
فنحن نريد تنبيهك الى:
"البلاد في حال فوضى فلا جيش ولا شرطة، وهذه الكتيبة مصدر رزقنا ولا نريد أي شبهات حولها
ولن نقبل أن يتم حلها كما أنه لا يمكننا أن نضمن الشباب أبدا في حال ما قررتم
تصعيد الموقف، لا نضمن أن لا يعاودوا الهجوم عليكم، لا نضمن أن لا تثأر منكم
عائلاتهم (وأنتم جيران؟!)، لا نضمن أنكم ستعيشون في سلام والدولة غير قادرة على
حمايتكم".
حين سمع أخي هذا الكلام خرج عليهم شاهراً سلاحه وقال: " أنا حسين
هذا امتى ما نلقاه بنقتله الى يوم الدين" وغادر. أما عني فقد دخلت إلى
المستشفى وتدهورت صحتي كثيراً وكنت قد حاولت الاستئذان من أبي مرارا أن أكلم آمر
الكتيبة وأرد عليه وإن من وراء ستار فرفض بشدة وبالرغم مِن أن مَن حضر الاجتماع هم
أبي وأخي الأكبر وأزواج أخواتي إلا أن لا أحد منهم كان داخل البيت ساعة الهجوم حتى
يوقف ذلك الشخص وهو يلوي عنق الحقيقة بين يديه متلاعباً بها.
الخاتمة:
تم إطلاق سراح المعتدين وهم يتجولون آمنين مطمئنين (أحدهم أب لأربعة
أطفال) وعلينا التزام الصمت والتحلي بروح التسامح (فلا نملك غيره). يجب عدم تصعيد
الموقف لأن لا وجود للدولة التي ينبغي أن تحمي مواطنيها حتى الآن...كتبت مقالي هذا
وفي اعماقي يقين ان دولة الحق والقانون قادمة رغم أنف الأشرار وحتى ذاك الحين لي
حق لا أسكت عنه.