كان لي موعد مع هيلينا اليوم التالي لرحلتنا الساحرة تلك، خرجنا معاً والأصح هي من اصطحبتني، المساء جميل لكن الجمال الذي يملأ الروح ويكفيها، لا يملأ المعدة التي لا تكف تطالب وتصرخ:
(شرهان جائع......شرهان يريد طعاماً.......شرهاااااااان جااااائع)
والحقيقة أنه كان هنالك (شرهانان جائعان، معدتي ومعدة هيلينا) وازداداً يصرخان بعد أن انتشرت روائح السمك والبطاطا (fish and chips) الشهية، يلتهمانها فتاتان انجليزيتان جائعتان، يسيران أمامنا ويزيدان جوعنا.
دعوت هيلينا لتناول العشاء معنا، ووافقت بعد تردد وخجل: إنها العاشرة مساءاً قد لا يرغب رامز في ضيوف في مثل هذا الوقت!.
- لا عليك، رامز سيرحب بأي ضيف في أي وقت، وأنت لست ضيف أنت جزء من عائلتنا، ربما نعد سندوتشات التونة والجبن، بعض عصير البرتقال سيكون منعش بعد هذا التعب... –فكرة- بمناسبة هذا البرد القابع ولا يريد أن يغادر، في بلادنا نعد طبقاً يسمى (عصيدة) من الماء والدقيق ورب التمر، وهو جداً فعال لمقاومة البرد ويعطي طاقة عالية ودفء والاهم يملأ المعدة، هل تتحمسين لتجربته؟!، سيكون مختلف.
هيلينا قبلت أن تجرب العصيدة وعلى هذا اتفقنا، ومن هذا صدم زوجي عند دخولي البيت وإخباره أنني سأطبخ عصيدة لهيلينا؟؟؟؟؟!!!!!!.
- لالا حرام عليك تصدمي البنت، عصيدة مرة واحدة*!!!
زوجي في حال ذهول لا يصدق ما يجري، انجليزية وعصيدة!، أحيانا يضحك أحيانا يبتعله الصمت وهو يراقبها تساعدني في إعداد هذه العصيدة.
بالنسبة لي، قليل من الغرابة لا بأس به في حياتنا، لن ألوم هيلينا إن لم تعجبها عصيدتنا، فأنا لم أكن أفضلها أبداً، وكانت أمي تخصني بإفطارٍ لي عندما يكون إفطار العائلة (عصيدة)، وهنا بحثت عن رب التمر وتعلمت إعدادها، إنه الحنين وبرد هذه البلاد الغريبة الذي يجعلنا نشتاق لتفاصيل كنا لا نهتم لها في أرض الوطن، تفاصيل صغيرة وقد نراها بلا أهمية تترك ندبة حسرة عميقة في حنايا القلب، أذكر أشياء لم أكن ألتفت لها:
- الفلفل الانجليزي الخشن السميك يريني كم كان جميلا فلفلنا الأخضر اللذيذ، الخيار، الباذنجان، الحبق، المعدنوس النعناع، التوابل، مذاق الطعام ورائحته الشهية.
أمور تتبدد بين ثنايا خيال الذاكرة تصير ثمينة كلما أخذك جواز السفر بعيداً، (قعد الكسكسي وقصعة البازين وفرادي خبزتنا الرخيصة والطيبة عصيدة الميلود، وشواء العيد ولمتنا وحكاياتنا حتى نقاشاتنا وعراكنا ومشاكلنا.....).
أشياء تخطر ببالي لم أقف عندها من قبل أبداً: البقرة التي تسميها أمي (سعيدة بق بق عيني) في مزرعة أبي، دجاجتنا وأرانب أخي الصغير وقطيع الغنم يتراقص فيه حملان توأمان، شجرة التوت أمام البيت، شجرة الليمون القمرية المسماة باسمي....... لكل منا شجرة باسمه.
سأحاول مقاومة سيل الذكرى لأكمل سرد ليلة العصيدة مع هيلينا.
بدون إطالة، جهزت العصيدة ولبعض الاحتياط، حتى لا نترك (شرهان معدة هيلينا جائع) حضّرت سندوتشات تونة وجبن وعصير.
ما الذي تتوقعنه قد حدث؟؟؟!!!، لا شيء غير انه قد وافق هوى العصيدة هوى هيلينا وهوى هيلينا هوى العصيدة، وانتقل ذهول زوجي لي، في حين أن زوجي غرق في نوبة دهشة جحظت لها عينيه، عندما كان يرى الفتاة الانجليزية تأكل العصيدة بيديها، تقطع اللقمة وتغمسها في الرب وترردد:
يمي يمي،......يمي delicious
ووفاء لعادتنا الليبية الأصيلة لا انفك اطلب منها أن تأكل المزيد.. المزيد. فأنقذها زوجي وأخبرها: الحسي أصابع يدك فتكف عن إلحاحها. وما سمعت تلك الكلمات حتى راحت تلحس أصابع يدها.
صحتين يا هيلينا وعافية
وهيلينا تعلمت أن ترد: (سيلميك) أي سلمك.
بعد أيام وصلني هذا الإيميل منها:
Please can you also send me a recipe for Acida ( I am not sure how to spell it!). I told my parents about it and they were interested so I may try and make it for them one day! Where could I buy the date syrup in Newcastle do you think?
ستصنع لوالديها العصيدة