تمر الأيام متتابعة، مع القليل من الأحداث، الدور الذي أقوم به هنا هو الرصد والالتقاط، لا أزال غير مرتبة وزوجي ينصحني مراراً وتكراراً: حددي هدفك وما تريدين!. أما أنا فأفيق صباحاً ضاجة بفكرة البحث عن عمل (أريد عملاً)، في اليوم الثاني أتبنى حسنة تعلم اللغة الانجليزية وإتقانها والفرنسية أيضاً، ولما لا!
اليوم الثالث أحمل فيه أفكاراً جديدة، سأشترك في دورة لتعلم مهارات الطبخ أو التجميل أو تربية الأطفال والإسعافات الأولية والكمبيوتر.
يقول زوجي :نعم نعم نعم، لا أمانع تعلمي ما شئتِ!. وأنا لا أجد غيره أصب عليه كل تيهي وضياعي وليس أمامي من سبيل، إما الانضمام إلى عصبة النساء الليبيات أو الانتهاء كمداً بين الأربعة جدران الباردة.
لا أزال أتعلم مهارات التسوق من السيدات الليبيات هنا، وأتعلم كيف أتعلم أيضا؟.
تعرفت على جارة ليبيه جميلة تسكن في ذات الشارع، وهي امرأة صغيرة السن، وصلت إلى انجلترا سابع أيام زواجها، ولها هنا ما يقارب السبعة شهور، ولها أيضا سبعة أشهر من الحمل. تعرفت عليها أمام بيتي عندما كانت تقود عربة طفل أمامه، فألقت التحية:السلام عليكم. ورددت بسعادة: وعليكم السلام. اقتربت منها أكثر: الأخت ليبية؟. وعندما تعارفنا، تعانقنا وكان سلاماً حاراً.
- هذا ولدك؟
- لا لا، ولدي في بطني.
- ما شالله، ان شالله تنوضي بالسلامة.
- هذا ولد جارتنا الليبية، تسكن أمامك وغدوة راجعة لليبيا
- في ليبية تسكن قدامي وغدوة غدوة مروحة؟!... يا بختها.
لم يكن مزاجي جيداً ذلك اليوم، وعودة إحداهن لأرض الوطن جرفني بحنين لم احتمله، فرددت بغيث وافر من الدموع: جارة ليبية تغادر وجارة ليبية تبقى.
سبق وأن أوصتني (جداي):
الضوقة ادير الصاحب
اللي ما يضوق ماعنداش صحاب
والنشدة إدل الداهب
اللي ما ينشد من الدهاب
رحت أحضر غدائي وأنا أردد هذا البيت وأبكي بهستيريا، أتذكر تفاصيل حياتي التي غادرت و(الضوقة بين الجيران)، في المساء حملت صحن (ضولمة) لجارتي. وردت الصحن في اليوم التالي مليئا بـ(العصبان!)
لقد فاجئني عصبان جارتي!، فصحني الصغير لم يكن إلا رسالة من القلب ووفاء لتعاليم أفنت جدتي أيامها ترسخها في عقلي.
لا أزال أدور في ذات الحلقة ويجب أن أخرج، أولا يجب أن أتعلم اللغة الإنجليزية وأن أتقنها، بحثت مع زوجي عن الأماكن التي تدرس اللغة الانجليزية عبر الإنترنت ومزايا عروضها، جمعت بعض المعلومات من السيدات الليبيات هنا، وبدأت تتضح بعض الملامح.
غدا سأذهب إلى كلية نيوكاسيل لأقف على عين العرض، ثم سأتجه إلى الإنتيرناشونال هاوس، قبل ذلك سأمر على الحضانة أريد رؤية "سميرة". وهي طفلة لأم إنجليزية وأب بنغلادشيي كانت مريضة في الأيام الماضية، سأمر على مركز المدينة، سأحاول التعرف على المزيد من تفاصيله، شوارعه وأسواقه، سأبحث عن المكتبة المركزية حتى أدرس فيها.
كبيرة الأحلام التي تراودني وخوف أكبر يقض مضجعي من أن يبتلعني غول اللا شيء، هنا وأصاب بلعنة الليبيات فأعود لبلدي كما أتيت (بعضهن الآن يدخل العام الرابع دون أن يتمكن من تركيب جملة انجليزية واحدة)، كما أن الكثير منهن غادرن بشكل نهائي على ذات الحال التي جئن بها.
رحلة الخمس ساعات
خرجت صباحا مع زوجي سيراً على الأقدام (أحب أن أمشي كثيرا وتعودت أن أمشي)، تذكرة الحافلة حتى مركز المدينة (السنتر) باوندا واحدا، زوجي لا يدفع لأنه يحمل بطاقة طالب (أحد حسنات الكفار الكثيرة، الطلاب لا يدفعون)، أعقد معه صفقة نسير معاً والباوند أشتري به قطعة شوكولاته كبيرة.
ونسير معاً
نغنى معاً
نمزح ونسرد النكات وتعلو ضحكاتنا، تلفتُ فرفشتنا الانجليز فنحييهم ويهللون لذلك، نخمن إلى أين ستوصلنا الطرقات لو اتبعنا هذا أو ذاك، ونلحق حدسنا مسلمين لخطواتنا مهام قيادة المشوار، نعبر إلى الصين من قوسها، وعبر حييهم نشتم روائح الأكل الصيني المنبعثة من المطاعم ونراهم يلتقطون اللقيمات بعصياتهم الخشبية في جلساتهم الدافئة من واجهات المطاعم:
- هل نحن في بكين؟
في السنتر لا يمكننا ألا ندخل المراكز التجارية الكثيرة جداً، وعملية المفاضلة تكون لصالح اهتماماتنا المشتركة فأن لست امرأة برجوازية ولا أهوى شراء الملابس والعطور والذهب وأدوات الزينة، أحب أن أحلق، أحب المغامرة وأحب اكتشاف الجديد.
بدأنا بمحل جميل يعرض المقتنيات الصينية من أواني وتحف وأثاث وتماثيل، وفتاة انجليزية لطيفة تعمل به، كثيراً رحبت بنا، خاصة بعد أن أبديت رغبتي في التقاط صورة معها.
يرحب الانجليز بالذين يرحبون بهم، سبرنا الشوارع، التقطنا الصور، الناس تنساب نحو ملعب نيوكاسل مرتدية الأعلام وشعارات فريقهم، يبدو أن هناك مباراة نيوكاسيلية اليوم، أنا قبل أن أعرف من ضد من، شجعت فريق مدينتي (هنالك مشاعر مختلطة تجيش في صدري اتجاه هذه المدينة) ، وخطر في بال زوجي خاطر، سنذهب إلى قوس الألفية (Millennium Bridge)، بدأت الأمطار تتساقط والناس تختبئ منها في الزوايا والأركان وتحت المظلات (ما فيش إلا زوز مهبلة)، هذا ما يردده زوجي طوال الوقت، اثنان يسيران تحت المطر البارد ودون اللجوء إلى المظلة، التي بقيت مقفلة حتى عودتنا.
جسر الألفية
سرنا في طريق اتضح انه خاطئ ولا يوصل لقوس الألفية، لكنه أوصلنا إلى الضفة الأخرى من النهر أعلى مجمع الجسور، وكم هي رائعة (حينها، أدركت أننا حقاً عالم ثالث). بدأ الثلج يتساقط، بطيئا، مهفهفاً، وناعماً كالريش. وصلنا حديقة معلقة مصنوعة من أدراج عشبية خضراء، سلمتنا إلي منحدر أنزلنا إلى باحة قوس الألفية، وهو نصب تذكاري يرحب بالألفية الجديدة، فوق نهر التاين الذي تنتصب نيوكاسيل أعلاه، ونحن أعلى الجسر.
في بدايته عازف قيثار نحيل يغني للريح، وامرأة في منتصف العمر تجلس في ركنه تلتهم قطعة جبن كبيرة، وفتيات آسيويات محجبات جميلات، يتراكضن ويلتقطن الصور، طفلة إنجليزية آسرة في الرابعة من عمرها تتسابق وأخيها، فيسبقها وتبدأ بالصراخ معترضة على الهزيمة حتى يعود.
أنا وزوجي (زوز مهبلة)، نكمل رحلتنا صعوداً مع الجسر بعد أن تزودنا بشراب الشوكلاتة الساخن وقطع البريوش اللذيذة، ونواصل إلى الأعلى، راح الثلج يتحول من طور الوداعة والهفهفة إلى عاصفة قاسية وريح قوية وبررررررررررد.
تنتهي رحلة الخمس ساعات سيراً على الأقدام، بقطعة شوكلاتة كبيرة جداً، نأكلها فوق استراحة من كراسي حجرية مبتلة ونعود بيتنا.